Article
علي طالب : سيرة فنية للرأس، لون عاطفي، وحالة البصرة!
سوف أذكر ما حييت الأيام الجميلة التي قضيتها في ضيافة علي طالب بداره في أربد. أذكر أحاديثنا بوجه خاص والتي لم نخصص منها للفن إلا الجانب العارض منه ، أعني الأفكار التي تداولناها بشيء من الاستخفاف . كانت مواقفنا تتفق في هذا السياق، فالأفكار عن الفن هي كل شيء الاّ الفن . أما التجربة الفنية المحددة ، فهي شيء آخر ملموس ، يمكن وصفها في سياق تعابيرها الخاصة وأوجاعها . بيد أن علي طالب لا يتحدث عن تجربته الفنية لأنها تُعاش عنده بتذمر صامت وعذب. وهي دائما بداهة تكذّب كل كلام عنها حتى لو كان كلامه هو.
حالة البصرة
أجمل أحاديثنا وأكثرها حماساً كانت عن ذلك الجزء من حياتنا الذي نحبه ونبتعد عنه.. ذلك الجزء الذي نسترجعه في الذاكرة، لأننا فقدناه ، ونواصل فقدانه، ولن يعود. لهذا الجزء اسم ، سوف أطلق عليه (البصرة)، وقرينه (حالة البصرة) .
إنني لا اخشى أن أصنع أساطير ههنا. أحيانا نخشى الحياة ، فننسج صورة خيالية لأنفسنا تصحبنا فيها قرائن وخرائط واقعية. أعتقد أن البصرة تمثل لمن غادرها، لوناً عاطفياً ، طريقة نتناول فيها الأمور، آداب سلوك ، إيمان بطيء، تفهم يظهر كهزّة رأس لكنه لا يعني الموافقة. قد يكون هذا الأمر مجرد زعم ، أو وهم اكتسبناه من حياة لم تعد مقنعة فنحاول تخيل طريقة حياة سابقة لنا ، أسهمت في خلقنا . لكن البصرة ليست وهماً على اية حال .. وكيف يمكن تعيين طفولتنا من دونها؟
حسن .. لقد سقط رأسينا في البصرة (هذا الرأس الذي سيحوله علي طالب إلى مكان)، فكان هناك شيء مشترك بيننا. هذه المصادفة العارضة – بالطبع – لا تجعلنا مشتركين بالشيء نفسه، إلا إذا حدث شيء يمدّه بطاقة عاطفية، كشعور بالخسارة على سبيل المثال، استطالة طفولية من الذاكرة، ومن يدري، قد يكون عبئاً يكبس على صدرينا .
لا أعرف البصرة جيداً، فقد غادرتها وأنا طفل صغير، وتراءت لي كمدينة حلمية، بعيدة ، لا أصل إليها. كانت هناك أحاديث عائلية غذّت بي انتماءً لا أستطيع أن أستهلكه في حياتي لأنه موجود في حلمي ليس إلا. أما هو فكان يعرفها جيداً، فأضحى معيني في الحصول على بُعد إضافي لأحلامي عنها.
لقد اكتشفت من أحاديثي معه أن البصرة شكلت بالنسبة إليه حضناً آمنا نام في دفئه مرة واحدة ولم ينم بعدها إلاّ قلقا. هي مسقط رأسه ومدينة شبابه ، ثم باتت رمزاً لكل حب غادره أو فقده ، مستعيده بالأحلام ، وأحيانا عن طريق السخط والإنكار. عندما تذكر البصرة أمامه لا يتوقف في الحديث عنها، بيد أنني لا أعرف أنه كرس للبصرة الكثير من الرسوم، ربما لأنها كانت قد تحولت إلى حالة عاطفية. فما بين الحنين والذكريات كان قد فهم أن لا رجعة إلى ذلك الحضن الدافئ.
من يولد في البصرة ويهجرها لا يرى في العالم مدينة أخرى تستوعبه، وكلما واصل الحنين إليها يدرك أن علاقته بها غير ممكنة وأنه لن يعود. بل يمثل عودات خيالية لها.
إنه نكد حقيقي. وتأكدوا مما أقول: من يخرج من البصرة لا يعود إليها لكنه يظل يحن إليها مجنوناً برائحتها. في ما عدا هذا النكد لا أقصد من حالة البصرة غير اللون العاطفي، والسلوك الأخلاقي، والمتع المستذكرة التي تلهب العيون بالدموع. وهي أيضاً الشراكة بمأزق. وقد لاحظت أن الكثير من مبدعي البصرة الحقيقيين هم تعبيريون يلجمون تعبيريتهم الإنسانية بالجماليات، ويأسرون غضبهم بالتهذيب، ولا ينسون جراحهم، وكثيراً ما يحولون العمل الفني إلى تعليق وتنويع على أعمال سابقة، معاودين من دون رغبة في بناء مآثر كبيرة بقدر ما هم مشغولون بتوضيح أنفسهم بإلحاح يثير التساؤل. كيف نفهم هذا؟ لا أدري، ولكن ما المشكلة؟ أبداً.. لتكن حالة البصرة إذن وصفاً للقاءات غريبة، مدينة أحلام أو مدينة نكد أو حالة معاودين موسوسين.
سيرة فنية
إن الاتصال المقطوع هو أحد موضوعات علي طالب الأثيرة ، وقرينه الذاكرة. تختص الأولى بلعبة الأقنعة والوجوه ، وتختص الثانية بالرؤوس . في الحالين هناك علاقات تعبيرية تجري بالأقنعة والرؤوس والاستقطاعات الجسدية.
لقد لاحظت في أربد وجود سلسلة من الأعمال تقع تحت اسم (ذاكرة)، وهي كلها تمثّل رؤوساً منفصلة، تجاورها سلسلة يجتمع فيها رأسان تشير إلى معنى العلاقة – وهي دائما علاقة رجل بامرأة. هاتان السلسلتان تصلحان للتأويل من حيث موقع الأشكال الدالة في العملية الفنية والانطلاق منها لوصف أعمال الفنان. إن معنى الذاكرة يشير إلى لون عاطفي ثابت بعض الشيء ينفتح تلقائياً على معنى العلاقة. فكل ذاكرة هي علاقة ما. ومثلما أن اللون العاطفي لموضوع الرجل والمرأة واضح، نرى أن الذاكرة تنفتح على موضوعات عدة : علاقات تُستعاد وتتجدد، تتفسخ أو تتسامى، وفي تضاريسها هناك عالم شخصي نضمن به وصف تماثلات واسعة.
أذكر هنا أن أعمال الفنان القديمة تأخذ تسميات قريبة، وكثيرا ما نتفاجأ بحياديتها مقابل عاطفيتها المضمونية.
في تجربة فنية كان يعمل عليها، ظهرت جدران وأبنية، بدا معها أن الفنان وسّع من مادته التشكيلية وعالمه الشكلي. لكن الجدران بدت خلفية لرؤوس بينما حظي الجدار بمنزلة الاقتراح الإسمي. أما المباني فهي تجربة منفصلة تقريباً من حيث الإنشاء والتعبير واستخدام المواد، بالرغم من أن فكرة الذاكرة تلتصق بها، فهي "مبان من الذاكرة" حسب اقتراحاته. بيد أن بالإمكان معادلتها بتلك المرتفعات شبه الطبيعية المظلمة التي صورها الفنان تقعى تحتها أجساد مقطوعة.
إن الاصطلاحية الجافة لاقتراحات الفنان تنجينا من مواعظ المعاني الإضافية. والفنان بقدر ما هو مقتصد في الشكل مقتصد باقتراحاته. إنه يقترب من تضييق دلالي يمثل حقيقة عمله البصري الذي سنتلقاه بسيرة ذات نسقين اثنين : سيرة الرأس وسيرة رأسين، أو سيرة جسد ورأس.
تشير الذاكرة عند علي طالب إلى الرأس، ليس بسبب المعاودات في رسمه وحدها، بل لأنه يملأ الرؤوس أحيانا بالتذكارات. إن مقاصده تتكشف عن طريق المعالجة الفنية، فهو دائم الحركة بين موضوعية الشكل وذاتيته هو، وفي بعض نقاط هذا المسار ثمة التحام، وفي نقاط أخرى ثمة انفصال. يظهر الالتحام عند تفكك المراجع الأسلوبية للفنان، فتظهر سطوة الذاتية التي تتضح معالمها بمعالجة جمالية داخل مساحة الرأس. وفي عدم نفي أن الفنان يصيب أهدافاً مجازية، فإني أرى الرأس ليس هو بالشكل الدال، ولا هو بالشكل المدلول، بل هو علامة يقع بين الاثنين.
إننا نعرف أن الرأس غادر اللوحة مرتين: مرة أضحى فيها هو العمل الفني، ومرة أضحى فيها كتلة نحتية. في الحالتين ثمة انفصال شديد مثّل فيها الرأس قدراته الذاتية الشكلية والحجمية بما يماثل ولادة جديدة له. إن وجوده أضحى وجوداً لنفسه، ليس بانتقاله إلى مستوى جديد من التحديد فقط، بل وبما ترشح منه كذلك: الصبغة، الملمس، الإشارات الخطية، الرسوم..الخ.
في الحالة الأولى يتسع الرأس في حدوده المحيطية التي تصبح هي حدود العمل الفني. لم تعد هناك أعمال بناء إذن لأن شكل الرأس يمثل البناء كله، وتفسيره الفني والتعبيري كامن فيه. وسواء فكّر أو تذكّر أو حلم فهو يفعل ذلك بنسيجه الخارجي. حياته الداخلية تظهر عليه بصرياً. إنه (الأخضر). اسمه من علامته اللونية. اللون الأخضر يلزم شفتيه حتى منتصف أنفه. على جبهته القليل من الأخضر، وقمة رأسه متوّجة به مع درجات من الأزرق. في منتصف الجبهة ثمة لطخة حمراء مضيئة تفتح العمل الفني إلى الخارج . جزئه الخلفي الذي يظهر في الأسفل (لأنه صوّر وهو ينام نومة ملوك!) عولج بألوان فاتحة تميل إلى البياض بما يشي بالعمق والصراع الداخلي لألوان متعددة الدرجات (أبيض- رمادي- أزرق). التكنيك هنا مختلف، فثمة خدوش وخطوط سطحية ولطخات حمراء صغيرة وثآليل لونية، نحسّ معها أننا إزاء مشهد حلمي، أو كما يحدث لنا عند إغماض العين بعد تعرضنا لتأثيرات ضوئية.
.. و(الأخضر) يكمله (الأزرق).. وهو شخصية أخرى هذا الذي يفكر أو يحلم أو يتذكر بالأزرق – ما بين تشبع لوني ودرجات من الأزرق.. لطخات سريعة تفتح العمل إلى خارجية مجهولة، وشفافية لونية نستشفّ منها عمقاً إلى الداخل.
أذكر أن (الرأس الأخضر) كان كاملاً ومركوناً، أما (الأزرق) فكان ما يزال الفنان ينتظر منه إشارة قبول. كان سلوك الفنان إزاءه سلوك من يتأمل داخل رأس انفصل عنه بمسافة ملؤها الوقار، لكن سراً أزرق كان يغريه باتجاه المزيد من التأمل، وربما التدخل. لقد فكّر أن يرسم على سطحه سلّماً، ربما غرفة علوية، ربما باباً. وأظنه لم يفعل ، فالرأس راضٍ وحجته مكتملة، بل هو يبدو غارقاً بحلم لذيذ.
هناك رأس آخر صنع من الخشب أيضا عالجه الفنان بروحية أخرى، فهو أصغر، يمتلك الأنف المرتفع نفسه. الجزء العلوي منه واستدارة جمجمته بدتا متحللتين ومتقشرتين، لكن الجزء الأمامي منه مختلف تماماً، فعلى أنفه انفتحت مربعات مضيئة، وظهر في صدغه وفق ثلاثي، وثمة عصفور صغير وسلّم ينزل – ربما يصعد. بالرغم من وجود اختلاف بين معالجة الجزء العلوي والسفلي، جاءت الهارمونية اللونية مؤكدة وأضافت إلى العمل غرابة مدهشة: مومياء انطبع حلمها في ما تبقى من جمجمتها المحترقة.
في الرجوع إلى تجارب قديمة نعرف أن الفنان واجه نوعين من المعالجات، فحيثما كان يظهر التفاصيل الإنسانية للرأس كوجه في تحديداته التعبيرية نراه يقترب من النواحي الأسلوبية العامة، فهو تعبيري أو سريالي بعض الشيء، فكأن ظهور التفاصيل يلزمه أن يضع نفسه في اندراج أسلوبي، لكن حين يخفيها، ليظهر الرأس مجرداً جداً، وعارياً، نراه يمارس اقتراحات غير تقليدية في الأسلوب والمعالجة.
هناك بضع لوحات تمثّل الظهور الخارجي لتعبير الوجه من أعمال عام 1985. الأول لرأس رجل صوّر من أعلى فظهرت قمة رأسه مسطحة وضع عليه صندوق مفتوح. وللمرة الأولى استخدم الفنان إضاءة مصدرها خارج اللوحة كشف بها تفاصيل الوجه الجانبية فبدا حجراً قاسياً. ولأنه أراد أن يضمن تجسيداً أقوى فقد أضاف مستطيلاً سطحياً مضيئاً خلفه، ثم أنزل شرائح مضيئة من إعلى إلى الأسفل تتلاشى في أسفل اللوحة المظلم. هنا جاءت الإضافات مباشرة وخارجية تمارس وظيفة ايضاحية.
نفس الرأس المسطح سيظهر في تجربة متأخرة : رجل يراقص امرأة رقصة تانغو!
اللوحة الثانية لوجه امرأة بنظارة سوداء تضع لوناً على شفتيها شارك الضوء الخارجي إظهار تفاصيله. لعلها كانت تسبح أو تتشمس ، فهناك سطح مائي يتلألأ خلفها، وشعرها تطاير إلى جهة واحدة – شعر متحجر. بهذه اللوحة اقترب الفنان من فن البوب الغربي.
ثمة رأس ثالث ملامح وجهه تشبه ملامح وجه الدكتور علاء بشير أعطاه الفنان الكثير من التحديد والصرامة ، حتى أنه أظهر تفاصيل العروق الصدغية، وثمة شكل لآلة أو معدن حاد بمساند غطى الجانب الذي يفترض أنه جسده، وثمة ساعة بلا عقارب تحملها خمسة أصابع .. الأصابع إياها القديمة التي كان الفنان يرسمها في تحديد خطي بسيط.
الملاحظ هنا أنه كلما ظهرت التحديدات التعبيرية للوجه أضاف الفنان عناصر تعبيرية مكملة، كالضوء، أو أشكال قوية غير مفهومة، وأحيانا تخفي حزمة ضوء مخروطية وجهت من أعلى الرأس وتفاصيل الوجه بينما ظهرت عينان تلتمعان داخل هالة ضوء كما في لوحة من الفترة نفسها.
ويحلو للفنان أن يطفئ الضوء، فيحيل اللوحة إلى وهج خافت من نور داخلي، عندها تختفي التفاصيل، وبالكاد نرى رأساً شبحياً تظهر في تحديدات لونية جزئية. تسيطر على هذه الأعمال قيّم لونية مختلفة تعالج بإطفاء بريقها باللون الأسود، وأحيانا بدمج الشكل في اللون نفسه الذي يغمر اللوحة، كما في لوحة من نفس الفترة طغى عليها اللون الأحمر الماجنتا. يظهر الشكل في هذا العمل حاراً ودموياً بما يشبه الإنبثاق من أرضية ضيقة لغرفة أو علبة. هذا اللون نفسه سيظهر في أعمال 1992 لكن بكيفية أخرى، فاللون كله سيغطي سطح اللوحة، وأسقط الرأس في أسفل اللوحة بتحديدات سوداء خفيفة ، وبملمس خشن، وأضاف في الوسط الوفق الثلاثي. ولأن سطح اللوحة المرتفع ظل فارغاً فقد أضاف إليه مثلثين ملونين متناظرين صنعا علاقة هارمونية مع السطح.
إن هذه اللوحة مع بضع لوحات ظهر فيها الرأس على جدار تشكل الطرف التجريدي لسيرة الرأس، وهي لاتخلو من اشارات رمزية، كالوفق الثلاثي أو الأرقام اللاتينية ، الأولى قد تشير إلى الزمن الكبير، والثانية قد تشير إلى الزمن الصغير – الوقت.
ثمة ترابط بين تحديدات الرأس وأسلوب المعالجة، فحيثما نرى الرؤوس في وضع النائم نراها عند الحدود التجريدية للمعالجة الشكلية والفنية، وحيثما تصور منتصبة نراها أكثر تحديداً من حيث التعبير بالوجه. ويبدو أن هذا الإختيار يمليه فعل التماهي، فحالة اليقظة تستدعي إطار استناد موضوعياً، تتقوى معه أشكال التعبير الإنساني للوجه. وبالعكس في حالة الرأس النائم، ينفتح الشكل داخلياً على الرموز الشخصية. إنه يتآكل ذاتياً في تجريدية تنقله في عدد من المواقع حتى يضحي هو بناء العمل الفني ولحمته وبقدر ما يتجرد تقوى إسقاطات الفنان الذاتية، ليشير إلى نفسه ووجوده الذاتي.
بالرجوع إلى عمل نفّذ في أواسط السبعينيات نرى رأساً قائماً ومستديراً بعض الشيء بدا مثل ممثل إيمائي امتدت يد أشرت بإصبع السبابة إلى صدغه. إن تلك الحذلقة التي تؤشر إلى مركز التذكر أو الصداع نفذت بألوان هارمونية بدرجات من اللون البني والأصفر.
إن وجود شكل تعبيري دال وصغير كالرأس أو الوجه في مساحة واسعة شكّل عددا من المشكلات الخاصة بالحيز الذي يحتله ومستوى ظهوره التعبيري. الفنان حلّ هذه المشكلات بمهارة، فهو لم يناور عليها على مستوى التصميم، إذ لم يقطع اللوحة إلى عدد من المساحات بل عالج السطح كله بألوان غير نقية، من دون استخدام الضوء، مما أضاف التماسك على العمل الفني وشد التعبير الشكلي إلى اللون، على نحو ظهر كأنه انبثق من وسط مناخ لوني. إن البناء كله يبدو اقتراحاً ذهنياً. والعمل السابق استعاده الفنان في أعمال أخرى بلون أخضر مكفف بالأسود حاذفاً اليد ومبقياً على الإصبع الذي يشير إلى الصدغ.
استنتاجات
من تلك الشروح التي قدمتها نستنتج أن الرأس لا يظهر في أعمال الفنان بالصياغة الفنية نفسها. فما بين تشخيصية تزداد وضوحاً لترتد، وتجريدية أكثر أو أقل، كان الفنان يشكل فضاءين، الأول طبيعي، والثاني ذهني، وظل يقطع المسافة ما بينها رواحاً ومجيئاً، وفي تآكل بين تشخيصيته وتجريديته، بين موضوعية الشكل وذاتية المعالجة.
من وجهة نظر الذاكرة، التي هي حالة وصفية مثمرة، أرى أنها تتضمن في نسيجها الداخلي تلك المسافة التي تُقطع. الذاكرة تتآكل وتُعيد بناء نفسها في مناخ آخر وفي مدى يضيق ويتسع. إنها تفقد موضوعها التأملي ثم تستعيده في وضعيات أخرى، مع تلازم ما بين النسيان والأشواق والخواطر الذاتية الآنية. إزاء ذلك علينا أن لا ننسى أن نكد الذاكرة متعب في تقصيه وارتداده واختلاطاته.
في هذه المسافة التي يضاعفها الخيال لا يستقبل المرء موضوعه إلا عبر تحولات، وبهذا المعنى يواصل إسقاطه النفسي والعاطفي في أحوال جديدة، سواء فعل هذا بوساطة الجزء النائم أو المستيقظ، الحالم في نومه أو الحالم في يقظته.
إن تكرار الرأس وتحولاته يحيلنا إلى اعتقاد أن أعمال علي طالب السبعينية والثمانينية تشكل سيرة واحدة من جهة الموضوع، بيد أنها من جهة الأسلوب متغيرة تغيراً كبيراً، إذ لا أسلوب واحد يشدّها، ما يدفعنا إلى تبني مقاربة جديدة في النظر إلى دلالاتها النفسية والعاطفية.
إذا حسبنا علي طالب تعبيرياً، فعلينا أن نضيف أن هذا الحسبان مجازي. إن الاسلوبية تشكل عنده خرافة من خرافات الفنان. حتى في تكراره للأشكال الدالة ومعاوداته في تقطيع الجسد الإنساني، كان لايني يقطعها بأشكال وبناء جديدين. من هنا أرى أن المضمون العاطفي عنده هو الذي يحدّد الأسلوب وليس تلك المعاودات الشكلية. إن اللون العاطفي الذاتي هو المهيمن في كل أعماله.
إيضاحات
يُعد علي طالب من مجددي الستينيات، ولا يخفي أنه ما زال أميناً على القضايا التي أثارتها تلك السنوات الثورية. ما زال يفضّل ارتكاساته الأولى على كل ما يجري حوله. لديه فكرة مركّزة عن احتياجاته الشخصية غير قابلة للمساومة ولا الاستبدال. الستينيات بالنسبة إليه هي هواء التجربة البكر، شبابه، وعيه، خبرته في جسده، خصامه الفكري الأول، استقلاله، إرادته النامية. ولأني اطلعت نسبياً على نشاطه الفني في الاثني عشر عاماً الأخيرة التي غاب فيها عن الوطن أستطيع أن أؤكد أنه ما زال يعيد إنتاج نزعة الستينيات الرمزية الإنسانية، وما زالت الذات المتألمة بالنسبة إليه هي الباني والحاكم والمبدّد.
أرى أن أقدم هنا بعض الإيضاحات : فالستينيات الفنية تتقدم على الستينيات الشعرية وتختلف عنها. الفنانون المجددون بعكس الأدباء المجددين لم يصارعوا مرجعيات قوية ولا أشباحاً بل صارعوا منتجين أحياء، وضمن مؤسسة ثقافية قائمة على التدريب، من هنا حظيت تجديداتهم بالاعتراف والآهلية بسرعة، وأكثر من هذا راح أساتذتهم الكبار يدخلون إلى لعبة التجديد وقادوا بعض افتراضاتها. إزاء ذلك أرى أن الستينيات فنية أكثر مما هي أدبية بالمعنى العام للكلمة، لأنه حتى في الشعر والنثر لم يعد مهماً ماذا يقال، بل كيف يقال. لم تعد المراجع أكثر أهمية من التجربة الشخصية، والأخيرة في الفن أضحت قوة أخلاقية. أطلقت الستينيات مفاهيم الخبرة الذاتية، والخبرة المعاشة، والداخل، والصدق الفني، كما اهتمت بمشكلات الوجود. أما من الناحية الفنية فقد قامت بتجديد العمل الفني تبعاً للعواطف والنزق وعدم اليقين، لكنها اتخذت نزعة تأكيدية ظهرت في معاودات اشتبكت بموضوعات تندّ عن جروح ومعاناة وروح معذبة مجروحة.
تبدو حالة علي طالب بالنسبة إلى جيله متطرفة بعض الشيء، فتطلبه العاطفي يعاد إنتاجه في الإنكار والمراوغة، من هنا كان دائم الحذف والاختزال، وقد فضّل أن يعمل بأشكال معدودة تفي باحتياجاته، بتطلبه وإنكاره ومراوغاته، لكن مناوراته الجمالية المدهشة كانت تجعل منها جديدة. فيما عدا ذلك كان يستطيع أن يقيم مسرحاً إيمائياً بلا أفعال روائية، من هنا وجدتني في عام 1988 أكتب عنه وأنا أفكر بشيخوف، وبقدر ما كان يجدد في المعالجات الفنية والتقنية ظل يعيد إنتاج رموزه القديمة: الرؤوس نفسها، اليد، الإصبع، أحياز كابوسية، علاقات المرأة والرجل، والجنس، الحب والموت.. والعلاقة الأخيرة كانت موضوعة معرضه الذي أقيم في هولندا 2003 واختار للإعلان عنه تفصيلاً من لوحة له بعنوان (أي أحلام يمكن أن تتحقق؟!).
تكريس
كان اتصالي المباشر به قد ساعدني على فهم احتياجاته العاطفية في الرسم، فلم يكن يرسم تحت ضغط طلب خارجي، ولم يعرف كيف يفعل هذا، فإما أن يرسم وهو محموم بنداء داخلي وإما لا يرسم، حتى أنه لم يتعلم كيف يختلق في داخله حالة تستدعي الرسم كما يفعل بعض المبدعين الخبراء في الاقتصاد.
كان يرس بعد أن يدفع تكاليف نفسية باهظة تعلم منها الضجر والانتظار الحانق. على الرغم من ذلك علمت بأن تردده أثناء العمل سببه السعي إلى الكمال في التنفيذ والرضى الجمالي. لكن هذا المسعى أضاف إليه أعباءً جديدة، فتعبيريته الإنسانية التي تطلق العنان لنفسها في عاطفة قوية فورية كانت تلجم بنزعة جمالية قياسية لا يحيد عنها. كان يبدو أشبه برجل يلجم غضبه الفوري بالتهذيب. وهذا ما دعوته بحالة البصرة التي هي نزعة يتقاسمها الكثير من مبدعي البصرة ، حتى في الكتابة. تذكروا النزعة الجمالية لمحمد خضير التي تختزل وتتحول إلى رمزية إنسانية.
الرأس وعقدة الأب
في استنتاج لاكاني ردَّ شاكر حسن آل سعيد رؤوس علي طالب المعاودة إلى عقدة الأب. بدا لي هذا الرد ممكناً، لكنه فقير جداً، ولا يقول شيئاً مهماً عن العمل الفني. ومن الواضح أن شاكراً كان قد حوّل النص البصري إلى نص لغوي وأعاد توجيهه إلى الشبكة السيكولوجية التي تنتجها العيادة النفسية. لا شك أن في أعمال علي طالب طاقة أدبية عالية تشتبك باللغة وتتأكد حقيقتها الرمزية بالمعاودات والتكرار. لكننا إزاء نصوص بصرية تغير دلالاتها ووظائفها التعبيرية في فترات زمنية تطول وتقصر، من هنا لابد من متابعة تحولاتها بدقة عبر الزمن.
توجد عند علي طالب مجموعة من السير الفنية للأشكال غير متساوية في الرتبة، وتدخل في علاقات فنية متجددة. ولست أظن أن عقدة الأب تستطيع أن تفسر فن الابن بكامله، فضلاً عن أن الابن ليس غراً حتى يخلع مشكلته في نظام واحد. إنه يدفع بها إلى الخارج فتتحول، ولا تعود هي، وقد تضحي ذكرى وجرحاً مستذكراً.
قبل هذا وذاك يجب ألا نتوقع من العمل الفني أن يضحي مسرحاً لعقدة نفسية أو عيادة شفاء إلى ما لانهاية، فمن دون أن تتدخل عناصر أخرى، فإن العمل الفني مفتوح لاستقبال التحولات الرمزية بوصفها تحولات ثقافية. إن آخرين غامضين، وصريحين، سيسهمون فيه. إن النص البصري ماكر، ونقله من موقعه التعبيري البصري إلى النظام اللغوي بعنت وعدم انتباه يعني تبديده.
في بيت علي طالب بإربد كنت قد شاهدت رؤوساً عديدة شكلت مع رؤوس أخرى قديمة سيرة شكلية. كان هناك رأس أخضر وآخر أزرق، فأي اقتراحات متوفرة ههنا؟ مضحك أن نزعم وجود عقدة خضراء وأخرى زرقاء. ليس الرأس/ الأب سوى لعبة لغوية استبدالية في أفق سيكولوجي. إننا جميعاً أصحاب رؤوس، وإمكانية أن نشكو منها لأسباب ثقافية وسياسية متوفرة تماماً. إزاء ذلك كان هناك رأس منحوت رسم عليه طائر: علاقة غريبة بين الوقار التعبيري الغامض للرأس وهذا الطائر الملون. ثمة تحطيم لاقتراحات سابقة، فلدينا هنا اقتراحات أخرى، والمراجع اللغوية تساعدنا في التفكير. والحال إن ذلك هو الإمكانية الوحيدة، فالنظام اللغوي هو الذي يشرح أنظمة التعبير الأخرى، ولكن ليس عليه أن يسقط مفهوماً قبل أن يصف السلسلة التعبيرية كلها، فإذا ما وقف حائراً، فعليه أن يظل أميناً حائراً، فالحيرة أكثر فائدة من استنتاج سيكولوجي يغطي العمل الفني!